هل خسر نزار قباني معركته الأخيرة في الفضاء العربي
بقلم شمس الدين العجلاني
بعد الاسئلة التي طرحها المسلسل التلفزيوني عن حياته:
من جريدة القدس العربية
ما أكثر المعارك التي خاضها نزار قباني، وما أكثر المآسي التي تعرض لها، ولكنه كان يخرج من كل معركة أطول قامة وأكثر صلابة.
نزار قباني منذ دخل مملكة الشعر بديوانه الأول قالت لي السمراء عام 1944 دخلها فاتحا وغازيا، وحياته أصبحت منذ عام 1944 بركانا متأججا، أعلن العصيان علي كل التقاليد والأعراف البالية ووقف بوجه كل الرياح العاتية. كانت حياة نزار مليئة بالمآسي والمعارك، فهو أضرم النار منذ نعومة أظفاره بعش الدبابير، ووقف متأملا نتائج الحريق ويحصي عدد الضحايا.. الحقيقة التي لا تخفي علي أحد أن نزاراً كان دائماً يلعب بالنار وطفلاً مشاكساً لم يترك عشاً للدبابير إلا وأضرم النار فيه فكان خلال تاريخه الأدبي العريق عرضة لهجمات شرسة ابتدأت مع أهل حيه واستمرت مع العديد من الأدباء والحكام والشيوخ وحتي مجلس النواب السوري.
فأول فاجعة تلقاها برحيل شقيقته الكبري وصال، وهي أخته من أمه حين قتلت نفسها لأنها لم تستطع أن تتزوج من تحب فكانت هذه الحادثة أول عامل يؤثر في شعر شاعرنا فيقول: (هل كان موت أختي في سبيل الحب أحد العوامل النفسية التي جعلتني انفر لشعر الحب بكل طاقاتي)، ثم وفاة والده أبو المعتز (توفيق) الرجل الوطني الصلب، ثم وفاة أمه أم المعتز فائزة اقبيق التي كان يعشقها.. وكان طفلها المدلل الذي ظلت ترضعه حتي سن السابعة وتطعمه بيدها حتي الثالثة عشرة، وكانت هي كل النساء عنده: (أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب كانت تعتبرني ولدها المفضل وتخصني دون سائر أخوتي بالطيبات وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوي ولا تذمر).
كما عاش نزار في العاشر من شهر آب (اغسطس) 1973 مأساة توفيق نزار قباني ذلك الحلم الذي نبت بين أجفان أبيه وذاك السهم الذي اتعب قلب أبيه.. وتوفيق كان طالباً في السنة الخامسة بكلية الطب بجامعة القاهرة.. اغتاله الموت وهو في ريعان شبابه فلم يكن يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر حين امتدت يد القدر لأغلي ما يملك نزار ولأجمل حلم عند نزار: (مكسورة كجفون ابيك، هي الكلمات. ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات).
وجاء مقتل زوجته بلقيس الراوي العراقية في حادث انفجار السفارة العراقية ببيروت عام 1982، والتي كان لها الأثر الكبير علي حياه نزار: (قتلوك يا بلقيس)..
أية أمة عربية تلك التي تغتال أصوات البلابل؟ أين السموأل؟ المهلهل؟ الغطاريف الأوائل؟ فقبائل قتلت قبائل.. وثعالب قتلت ثعالب.. وعناكب قتلت عناكب).. وبعد مقتل بلقيس ترك نزار بيروت وتنقل في باريس وجنيف حتي استقر به المقام في لندن التي قضي بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته. ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل علي مساحة الوطن العربي بين مثقفيه أو بين حكامه.. خاصة قصائده السياسية خلال فترة التسعينيات مثل: متي يعلنون وفاة العرب، والمهرولون، والمتنبي، وأم كلثوم علي قائمة التطبيع.
أما عن أبرز المعارك التي خاضها وبمعني أصح الحملات التي شنها المعارضون ضده:
معركة قصيدة خبز وحشيش وقمر التي أثارت رجال الدين في سورية ضده، وطالبوا بطرده من السلك الدبلوماسي، وانتقلت المعركة إلي البرلمان السوري وكان أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان.
معركة هوامش علي دفتر النكسة .. القصيدة التي أثارت عاصفة شديدة في العالم العربي، وأحدثت جدلاً كبيراً بين المثقفين .. ولعنف القصيدة صدر قرار بمنع إذاعة أغاني نزار وأشعاره في بعض الإذاعات والتلفزيونات العربية.
وفي عام 1990. صدر قرار من وزارة التعليم المصرية بحذف قصيدته عند الجدار من مناهج الدراسة بالصف الأول الإعدادي لما تتضمنه من معان غير لائقة؟ وقد أثار القرار ضجة في حينها واعترض عليه كثير من الشعراء في مقدمتهم محمد إبراهيم أبو سنة.
المعركة الكبيرة التي خاضها ضد الشاعر الكبير أدونيس في أوائل السبعينيات، قصة الخلاف تعود إلي حوار مع نزار أجراه، منير العكش، الصحافي اللبناني ونشره في مجلة مواقف التي يشرف عليها أدونيس. ثم عاد نزار ونشر الحوار في كتيب دون أن يذكر اسم المجلة التي نشرت الحوار فكتب أدونيس مقالاً عنيفاً يهاجم فيه نزار الذي رد بمقال أعنف، وتطورت المعركة حتي كادت تصل إلي المحاكم لولا تدخل أصدقاء الطرفين بالمصالحة.
وفي عام 1990. ايضا أقام دعوي قضائية ضد إحدي دور النشر الكبري في مصر، لأن الدار أصدرت كتاب فتافيت شاعر متضمناً هجوماً حاداً علي نزار علي لسان اللبناني جهاد فاضل.. وطالب نزار بألف جنيه كتعويض وتم الصلح بعد محاولات مستميتة.
وحين اقام نزار قباني فترة من الزمن في القاهرة تعرض لهجوم من بعض شعرائها وصحفييها، فها هو الكاتب الصحافي موسي صبري رئيس تحرير صحيفة الأخبار يوجه مجموعه من الشتائم للشاعر ضمنها جملته الشهيرة التي قال فيها: (عليك اللعنة يا نزار.. يا قباني) وجعلها عنوان مقالته وختامها؟
وكان نزار قباني يخرج من كل معركة أطول قامة وأكثر صلابة وشعبية وشموخا لأنه كان مؤمناً أن الشعب العربي يقف متراصا كعنقود العنب خلفه، لان نزار تكلم باسم الشعب العربي وبما لا يستطيع الشعب العربي البوح به.
نزار والشيخ الطنطاوي
ومن اعنف الهجمات التي تعرض لها نزار بعد صدور ديوانه الشعري الأول (قالت لي السمراء) من قبل مجلة الرسالة المصرية حين تعرضت بقلم الشيخ علي الطنطاوي لهجوم علي نزار وديوانه.. فحين عرض (قالت لي السمراء) علي الشيخ الطنطاوي لم يرق له هذا الخروج علي المألوف في عصر كان فيه الشعر العمودي هو المسيطر علي الساحة الأدبية بدواوينه ذات الغلاف المتزن والأسماء الجادة فمن أين يأتي شاعر الشام بهذا الديوان (قالت لي السمراء) فلتقل ما تشاء هذه السمراء، ولكن لن يصنف الشيخ الطنطاوي ما قالته ضمن مصنفات الشعر فيقول حرفياً: (طبع في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف، ناعمه، ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علب الشكولاته في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور بعضهن ليعرفن به، فيه كلام مطبوع علي صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستها بالسنتمترات يشتمل علي وصف ما يكون بين الفاسق والقارح والبغي المتمرسة الوقحة وصفاً واقعياً لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل غني، عزيز علي أبويه، وهو طالب في مدرسة، وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم والطالبات.. وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط، والبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملوا رفع الفاعل ونصب المفعول ومضي عليهم ثلاثة الاف سنة وهم يقيمون عليه فلم يكن بد من هذا التجديد).
بهذه القسوة والتجريح قوبل عمل نزار الأول من علم من أعلام الأربعينيات من هذا العصر، فزاده ذلك إيمانا وصلابة واستمر في العطاء وتحدي المجهول وأخذت قصائده تنتشر بين فئات الشعب بأسرع من البرق فيتداولها الطالب علي مقاعد الدراسة والأستاذ الجامعي علي منبر العلم والتدريس.
نزار والمجلس النيابي
في عام 1954 نشر نزار قصيدته (خبز وحشيش وقمر).. وكانت النتيجة كما يقول نزار: (فأنا أيضاً ضربتني دمشق بالحجارة، والبندورة، والبيض الفاسد.. حين نشرت عام 1954 قصيدتي، خبز وحشيش وقمر). ولم تقف دمشق عند هذا الحد، ففي عام 1955 وفي أول ظاهرة في العالم يحاول المجلس النيابي السوري محاكمة الشاعر نزار قباني (العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل طالبت بشنقي.. والذقون المحشوة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي.. خبز وحشيش وقمر كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة وبين التاريخيين).
مجلة الآداب اللبنانية لصاحبها الأديب الدكتور سهيل إدريس غنية عن التعريف فهي معروفة علي مساحة الوطن العربي باتزانها وعراقتها وقرائها المثقفين، نشرت في الخمسينيات قصيدة (خبز وحشيش وقمر) وكان حينها يشغل منصباً دبلوماسياً في السفارة السورية في لندن. وتناقلت الصحف السورية هذه القصيدة التي وصلت إلي يد النائب في مجلس النواب السوري عن الإخوان المسلمين (الشيخ مصطفي الزرقا) والتي اعتبرها ظاهرة غير طبيعية علي الساحة الأدبية والعربية، وتداول في أمر هذه القصيدة مع بعض النواب من كتلته النيابية وطلبوا من وزير الخارجية آنذاك خالد العظم أن يعاقب هذا الشاعر ولم يجدوا أذنا صاغية لذلك، فكان أن طرح الشيخ الزرقا هذه القصيدة في مجلس النواب وذلك في الجلسة التي عقدت يوم الثلاثاء 14/6/1955. ويقول الزرقا تحت قبة البرلمان السوري: ماذا أقول عن وزارة الخارجية تلك الوزارة التي لفتنا نظرها قبل ذلك إلي موضوع هام جدا إلي موضوع قومي بالدرجة الأولي قبل أن يكون موضوعا دينيا، هذا الموضوع هو تهجم أحد ممثلينا في الخارج (ممثلنا في لندن) هذا الشخص هو رجل يقال له نزار القباني وقد كنت أريد أن لا أتعرض لأشخاص غائبين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولكنه رجل يمثلنا ويعرض صورة عنا في قصيدة داعرة فاجرة انحلالية إلحادية وفضلا عن كل هذا تظهر الشعب العربي في أقبح صورة وأبشع تمثيل وافسد حالة، وتعرض هذه الهيئة علي أنها صورة للشعب العربي، تعرضها علي أنظار الأجانب في صورة يقشعر لها بدن كل عربي يتحسس بالمروءة والكرامة ويعرف مجد العرب صورة يستنكرها غير المسلم قبل أن يستنكرها المسلم ويستنكرها الملحد قبل أن يستنكرها المتدين، صورة لو أريد لإسرائيل أو لغير إسرائيل من أعداء العرب أن يدفعوا مليونا من الجنيهات علي أن يأخذوا هذه الوثيقة من ممثل من ممثلينا تصورنا أمام الأجانب وتدعم افتراءاتهم علينا من أننا أمة لا تستحق الحياة. ان هذه الحجة مهما أنفقوا في سبيلها من الجنيهات لا يستطيعون الحصول عليها، انها تأتيهم منا، ومن ممثل لنا تسعي علي قدميها لتكون برهانا لهم علي افتراءاتهم علينا. هذه الصورة أريد أن أقرأها علي ممثلي هذه الأمة وعنوان هذه القصيدة (خبز وحشيش وقمر) ويتابع الشيخ الزرقا قائلا : هذه الصور التي يصورها ممثل لنا في الخارج هو نزار القباني، لقد رجونا وزير الخارجية شخصيا عندما قابلناه ثم بواسطة الأمين العام وبواسطة عدد من زملائه الوزراء، وقد رجوناه أن يتخذ الإجراءات اللازمة في حق هذا الموظف الذي ثارت عليه جميع الصحف حتي الصحف التي ليس لها اتجاه ديني أو اتجاه مثالي، لقد ثارت عليه كلها فلم تبق صحيفة من الصحف الا ونددت به وطالبت الحكومة بإجراء حاسم في حقه، ولكننا لم نلق جواباً بل سمعنا وهذا علي لسان وزير الخارجية ـ أن هذا أمر بسيط يقال أمثاله في هذا الموقف، فما هذه الوزارة ؟ هل هي وزارة أم هي دعارة أم هي لا ادري ما أقول من أمثال هذه الكلمات....
وبعد انتهاء كلمة الشيخ الزرقا وإلقائه لقصيدة نزار قال فاخر الكيالي وزير الاقتصاد الوطني وزير الخارجية بالوكالة: انني احتج علي هذه الكلمات وان هذا الكلام مردود عليك. هذه وزارة وليست دعارة. ويرد ناظم القدسي رئيس مجلس النواب آنذاك علي كلام الشيخ زرقا: نرجو أن نبتعد عن الألفاظ الجارحة ويرجي من حضرات الزملاء حينما ينتقدون أو يوجهون أو يسألون أن يستعملوا الألفاظ التي تدخل إلي الأذن من غير أن تكون مثيرة. ونحن هنا لنتباحث ونتكلم ونوجه، ويعترض النائب هايل سرور علي كلام ناظم القدسي قائلا: لكل نائب أن يتكلم بأي موضوع شاء، بينما يؤيد النائب احمد إسماعيل الشيخ الزرقا بما ذهب إليه قائلا: أؤيد الزملاء لان بلادنا تسير نحو الهاوية فالأخلاق تتدهور، والخلاعة أصبحت علانية، وأيضا النائب اكرم الحوراني يؤيد الشيخ الزرقا قائلا: أوافق أخواني أعضاء الكتلة الإسلامية علي المشروع الذي تقدموا به واوافقهم علي استنكار القصيدة التي تلا الأستاذ الزرقا نصوصها وقد استنكرتها قبلا.
ويتابع نزار قباني ذكرياته عن هذه الحادثة قائلا: وفي اليوم التالي لجلسة الاستجواب قام بعض النواب بزيارة الرئيس خالد العظم في مكتبه بوزارة الخارجية، أثاروا قضية القصيدة مرة أخري، مطالبين بإحالتي علي اللجنة التأديبية للوزارة، فاستمهلهم الرئيس العظم قليلا حتي يقرأ ملفي الوظيفي الذي حمله إليه الأمين العام لوزارة الخارجية. وعندما انتهي الرئيس العظم من قراءة ملفي قال لهم: ياحضرات النواب الأعزاء أحب أن أصارحكم إن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف ونزار قباني الشاعر، أما نزار قباني الموظف فملفه أمامي وهو ملف جيد ويثبت انه من خيرة موظفي هذه الوزارة، اما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعرا ، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا علي شعره. فإذا كنتم تقولون انه هجاكم بقصيدة.. فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة.. وكفي الله المؤمنين شر القتال.
وحار نزار ماذا يفعل نتيجة هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها فلملم أوراقه وذهب إلي السفير السوري في لندن يشكو له ما يتعرض له فقال له السفير:
(إذا كنت متضايقا مما يقال عن القصيدة، وتريد أن تتخلص منها، فأنا فايز الخوري مستعد أن اشتريها فورا، فحدد المبلغ الذي تريده.. علي شرط أن تضع اسمي تحت القصيدة ! فهدئ أعصابك يا نزار، وثق أن جميع هذه الأصوات النشاز التي تهاجمك سوف تطحنها عجلات الأيام، ولن يبقي في خزانة التاريخ سوي أنت وقصيدتك). وبقي نزار وقصيدته وطحنت عجلات الأيام ما تبقي.
نهاية رجل شاعر
امتدت يد القدر لنزار قباني ووافته المنية في منزله بلندن يوم الخميس 30/4/1998 عن عمر يناهز 75 عاما ورحل الشاعر بدون عودة، وترجل عن صهوة جواده تاركا لنا أسطورة وإلياذة خالدة في حب المرأة والوطن وحكايات طويلة عن دمشق وياسمينها وصليب العذاب الذي صلب عليه منذ نطق بأول بيت شعر لأنه حمل قضيه المرأة منذ نعومه أظفاره، لأنه غني للعروبة وكان شعره السياسي خارجا عن كل قانون، جارحا تجاوز فيه كل الخطوط الحمراء ، لأنه كان شاعر الحرية والديمقراطية لم يمالق ولم يهادن..
وعلمت دمشق برحيل شاعرها وابنها البار نزار توفيق قباني، الذي شاء القدر له ان يتشرد علي مساحة المعقول وغير المعقول فجاب أنحاء المعمورة يطرق أبواب العشاق والفقراء والمساكين الدراويش من أبناء العروبة يقرئهم السلام ويهديهم وردة دمشقية..
أنا وردتكم الشامية يا أهل الشام
فمن وجدني منكم فليضعني في أول مزهرية
أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام
فمن رآني منكم فليلتقط لي صورة تذكارية
أنا قمركم المشرد يا أهل الشام
فمن رآني منكم فليتبرع لي بفراش وبطانية صوف
لأنني لم أنم منذ قرون
بهذه الكلمات اختصر الشاعر عذابات تشرده بعيدا عن محبوبته دمشق. سكت قلب الشاعر العربي الأكثر جماهيرية في القرن العشرين، ونعاه أهل الشعر والعروبة وعلت الدعاءات ورنت النواقيس في بلاد العـــرب مودعه شاعرهـــا وابنها البار فلم تهتز عاصمة عربية لوفاة شاعر أو أديب كما تزلزلت لوفاة نـــــزار ،خسرت عواصم العرب كلها نزار لأنه كان شـــــاعر العرب بمختلف جنسياتهم وانتماءاتهم وأعمارهم وتصنيفاتهم الاجتماعية والثقافيـة، واستطاع ولأول مرة في تاريخ العرب المعاصـــــر أن يحطم حواجز الحدود والسـدود وتجول كلماته بسرعة البرق من أقصي عالم العرب إلي أقصاه دون أن يتمكن أي دركي أو خفير من ضبطه والقبض عليه ومصادرته.
المعركة التي خسرها نزار
والآن وقد رحل طفل الشام المدلل، تاركا إرثا حضاريا، وإلياذة خالدة في حب المرأة والوطن، هذا الإرث الشعري من حق كل مواطن عربي أن يتمتع به، ومن حق كل الوطن أن يتغني به، ولكن ليس من حق أي مواطن عربي أن يدخل بيت نزار ويعبث بكل أوراقه ويرسمه كما يشاء، ويطعمه ويسهر معه كيفما يشاء.. ليس من حق أي مواطن عربي مهما علا شأنه أن يرسم نزار وأهله بالطريقة التي يريد، بحجة أن نزار ملك للوطن. ملك الوطن الياذة نزار.. وليست حياته وحياة أهله؟
وبث التلفزيون العربي السوري وفضائية دبي مسلسل نزار قباني، ودخل المسلسل في أدق التفاصيل في سيرة حياه نزار وحياة أهله ومنهم من لم يزل علي قيد الحياة، دون استئذان. فأشقاؤه وأولاده فتحوا التلفزيون ليشاهدوا سيرة حياتهم ترسم بدون علمهم، وبطريقه بعيدة عنهم.. اعترضوا.. عقدوا المؤتمرات الصحافية.. اجروا اللقاءات الاعلامية.. أقاموا الدعاوي.. قابلوا المسؤولين، والمسلسل مستمر، وكل اعتراضات آل قباني لم تجد.
وانتهي عرض المسلسل المدعو نزار قباني بعد أن أطاح بكل المفاهيم التي قرأناها وتربينا عليها وعشعشت في قلوبنا وعقولنا عن دمشق نزار فباني، فرسم لنا المسلسل بيئة دمشقية جديدة لم نألفها، وأعطانا مفاهيم جديدة غير صحيحة عن تاريخ رجالات سورية في ذلك العصر..
ولم يستطع نزار قباني الدفاع عن سيرة حياته، ووقف أهله مكتوفي الايدي أمام سيرة حياتهم وحياة والدهم، وبعض اخوة نزار (رشيد وهيفاء) حمدوا الله ان المسلسل لم يطلهم، واكتفي بشقيقهم صباح. وخسر نزار توفيق قباني معركته الأخيرة في الدفاع عن سيرة حياته، ولكن هذه المرة خسرها مع أولاده وأشقائه، المعركة الأخيرة خسرها بدمشق التي ابتدأ منها أولي معاركه عام 1944 وضرب بالحجارة، والبندورة، والبيض الفاسد.. خسر معركته بحجة أن سيرته ليست ملكا له.
والآن يضربون نزار قباني وأهله مرة أخري بالحجارة، والبندورة، والبيض الفاسد في دمشق التي قال عنها (لا أستطيع أن اكتب عن دمشق، دون أن يعرش الياسمين علي أصابعي.. أنا محصول دمشقي مئة بالمئة.. لا أستطيع إلا أن أكون شاميا.. أنا الدمشقي، لو شرحتم جسدي لسال منه، عناقيد، وتفاح.. وددت لو زرعوني فيك مئذنة، أو علقوني علي الأبواب قنديلا.. كتب الله أن تكوني دمشقا، بك يبدأ وينتهي التكوين).
2005-11-18