نزار قباني في ذكرى رحيله الثانية عشرة ... حضور أقوى من الغياب
بقلم د. نبيل طعمة
يتمتع الشاعر الراحل نزار قباني بحضور قصيدته عبر أجيال متنوعة من متذوقي الشعر سواءً من حيث حضور هذه القصيدة كنص شفهي أو حتى عبر الأغنية العربية التي أفادت كثيراً من شعبية ووضوح نصوصه التي قاربت الملحمة الشعرية وعبرت عن أحاسيس الملايين من عشاق الأرض والإنسان.
كما يعتبر شعر نزار قباني من النصوص الشفهية التي حافظت على كينونتها عبر الصوت الذي تمثل في إلقاء هذا الشاعر العبقري لقصائده بصوته في أكثر من مناسبة فالقصيدة القبانية لا تكتمل إلا بتصويتها أي جعلها صوتاً يخرجها من خرسها على الورق إلى وجودها الفيزيائي أو ما يسمى باللوغوس المنطوق المعقول داعماً ذلك بقوله.. ما أقسى القصيدة التي لا تلقى.. إن طعمها في الحلق يصبح كطعم العصفور الميت.
ولهذا يعتبر النقاد أن قصيدة نزار هي قصيدة الصوت وليست قصيدة الكتابة حيث الأماسي الشعرية هي من سمح لهذه الموهبة بالظهور والتحقق عبر صوت الشاعر ذاته مبررين كلامهم بأن شعر نزار يحيل أشياء العالم إلى أصوات تغدو في متناول الشاعر ويتجلى ذلك بقوله.. تصبح يد حبيبتي مكان يدي..وفمها كتاباً أقرؤه قبل أن أنام..ودبوسها المنسي على الطاولة..حمامةٌ لا تريد أن تنام.
وما يثير الانتباه في شعرية قباني الحضور الكبير لدمشق كمكان وكعشيقة أبدية للشاعر ما برحت تحفر في صوته وجسده إذ خص قباني هذه المدينة بكتيب طارت شهرته في كل أرجاء الأرض بعنوان دمشق..نزار قباني حيث يقول الشاعر عن هذا الكتاب.. دمشق نزار قباني..عنوان يشبهني أكثر من كل التصاوير التي أخذت لي منذ ولادتي حتى اليوم..عنوان يجعلني محفوراً في ذاكرة الناس كما رباعيات الخيام وسونيتات بيتهوفن وخمريات أبي نواس.
ويتجلى عشق نزار لدمشق من خلال عدة مقطوعات شعرية لعل أهمها قصيدته المعنونة ب دارنا الدمشقية التي يرسم عبرها دمشقه الصغرى وبيته العتيق الذي ولد فيه في 21 آذار من عام 1923.
ويقول قباني في هذه القصيدة.. هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطرٍ..بيتنا كان هذه القارورة..ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر بل أظلم دارنا..والذين سكنوا دمشق.. تغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة.. يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون.
ورغم سفر الشاعر الكثير بسبب عمله في السلك الدبلوماسي وابتعاده عن دمشق لسنواتٍ طويلة إلا أن نزار قباني يردد.. أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي وثيابي وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع وفل وورد بلدي.
وتحتل المرأة في شعر قباني مكان الصدارة من خلال تكثيف العالم في هيئة امرأة معشوقة كما في مجموعاته الشعرية التي بدأها بديوانه الأول قالت لي السمراء1944 و يوميات امرأة لا مبالية1968 وقصائد متوحشة 1970 حيث تتربع الأنثى على الخطاب الشعري لنزار دامجاً بينها وبين الكون والحياة والمصير.
يقول قباني: بعينيك يبدأ تاريخ الفرات..ويبدأ حزني الجميل الذي يتكلم سبع لغات .ويبدأ عشقي العظيم الذي..يتسلق جدارنك كالنبات.
كما تتحول المرأة في النص الشعري القباني إلى هيئة الأرض ولأنها الأنثى الأرض تصير هذه المرأة كائنا سحريا يقبع بين الممكن والمستحيل لتؤسس المكان بحضورها اللامرئي ولتصبح مكمن المعرفة والمغامرة.
يقول نزار أحبك قبل الأنوثة..بعد الأنوثة..شرق الأنوثة..غرب الأنوثة..يا امرأةً لا أراها..ولكنها في جميع الجهات.
وتغدو الأنثى المستحيلة في شعر نزار تاريخاً للجمال والجميل من خلال مفردات امتاز بها نصه الشعري على نحو.. الحرير.. الياسمين.. الطيور.. الزهور..العطر ..العصافير.. عابراً بذلك إلى الأنثى المتعالية بذاتها التي ستنقرض الحياة بلا وجودها في حياته ولتصير المرأة هي الثبات والضمان لفعل الحياة ذاتها ولتاريخ هذه الحياة.
ويقول نزار: لأشهد أنك آخر بيتٍ من الشعر يروى..وآخر مروحةٍ من حرير..وآخر طفلٍ في عائلة الياسمين.
ويقول الشاعر أدونيس في تجربة نزار قباني الشعرية إن نزار كان منذ بداياته الأكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب في الإمساك باللحظة التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة وبخاصة همومهم المكبوتة والمهشمة إلى أكثرها إيغالاً بالحلم والحق في حياةٍ أفضل.
ويعزو أدونيس إعجاب الناس بشعرية نزار قباني إلى قدرة هذا الأخير بابتكار تقنية لغوية وكتابية خاصة تحتضن مفردات الحياة اليومية بتنوعها ونضارتها لتشيع فيها النسيم الشعري صانعاً منها قاموساً يتصالح فيه الفصيح مع الدارج والقديم مع الحديث والشفوي مع الكتابي.
وقال محمود درويش في تجربة نزار قباني إنها كانت فوق التجارب منصرفاً لمخاطبة مراهقتنا وكان يقول أشياء لا تقال فبشعره كان يستطيع قول كل شيء.